بابلو بيكاسو
ولد "بابلو رويز بلاسكو" الملقب باسم بابلو بيكاسو عام 1881 بمالقة (الأندلس) وتلقى تكوينه الفني
بيرشلونة، حيث كانت تختلط التأثيرات الفوضوية بتأثير الفن الحديث، وبالمدرسة ما قبل الرمزية وبالتعبيرية الاسكندنافية التي كان يقودها الفنان النرويجي "إدوارد مانش، وبفن الرسم الفرنسي الذي تأثر به بيكاسو (خصوصا بباريس) لمدة ثلاث سنوات أي بين عامي 1900 و 1903.
الدارسون والمحللون لمسيرة بيكاسو الفنية يجمعون على كونه، قبل ولوجه عالم التكعيبية، مر من مراحل متعددة وغنية من حيث المواضيع والتقنيات التعبيرية وهكذا نجد أن أعماله الأولى، التي تمثل مشاهد اجتماعية وواقعية (الراقصات، العاهرات، مدمني الخمر..)، أخذها بيكاسو من صميم دروس ما قبل التعبيرية (نموذج لوحة نانا الموجودة في متحف بيكاسو ببرشلونة) قبل أن يتأثر بانطباعية بول غوغان وتولوز لو تريك (لوحة المهرج الموجودة بمتحف الميتروبوليتان بنيويورك كنموذج).
بعد ذلك، اتخذ بيكاسو من "رمزية الاستلهام" مصدرا مرجعيا ميز مرحلته الزرقاء التي أنجز خلالها مجموعة من اللوحات شبه أحادية اللون (monochrome). منها لوحة (الحياة) ولوحة (السماوية).
وفي مرحلته الوردية، استطاع بيكاسو (انطلاقا من 1906) أن يرسم العديد من اللوحات العاطفية (المهرج، الفارسات، المرأة حاملة الوردة، البهلوان..) بعد ذلك، قرر بيكاسو الاستقرار الرسمي بباريس، حيث شغل محترفا في ( الباتولافو) في مونمارتر.. واستطاع بفضل اجتماعية التي يتميز بها أن يربط علاقات سريعة مع الشاعر (أبو لينير) والرسام (هنري ماتيس).
أما عن علاقة بيكاسو مع التعبير التكعيبي فإنها تعود بالأساس إلى تأثره بعاملين اثنين: أفكار الرسام بول سيزان (الذي اهتم كثيرا بالحجم الطبيعي) وخصوصيات النحت الزنجي (sculpture nègne) [1].
وتعتبر لوحة (نساء عاريات) الموجودة في متحف الفن الحديث بنيويورك) وبدرجة أقل لوحة (آنسات أفنيون / Les demoiselles d’Avignon. نفس المتحف)، من أشهر الأعمال التي أظهرت النزعة البدائية التي ستفرض وجودها في جل إبداعاات بيكاسو، والتي رسمت له طريقا عريضا لولوج التكعيبية .. ومن هنا انقطع بيكاسو كليا عن التصوير الأكاديمي والكلاسيكي.. ومعلنا في الآن نفسه، عن ميلاد نمط تعبيري جديد اسمه: التكعيبية / Cubisme [2] التي لم تدم، في تاريخ الفن المعاصر سوى ستة أعوام (وهي أقصر مرحلة من مراحل التصوير الحديث) قضاها بيكاسو بمغامرة فريدة خصوصا مع صديقه جورج براك سبيلا في إعطاء وتقديم الأشياء في صورة مبسطة وإعادتها إلى مجسمات هندسية بغية منحها وجودها الفيزيائي الملموس.. بعيدا عن أساليب وتقنيات المنظور التقليدي..
وفي عام 1917، أرغم بيكاسو على السفر إلى "إيطاليا بسبب الحرب التي أبعدته عن صديقه براك، وعن رسامي (مونمارتر).. وبروما التقى مع الشاعر والكاتب المسرحي جان كوكتو / J.Cocteau الذي لعب دورا كبيرا في تأثر بيكاسو بعالم المسرح والرقص (الباليه).
بعد ذلك انطلق بيكاسو في دراسة النحت القديم وتحليل كلاسيكية النهضة (الحنين إلى التراث التقليدي). وقد أنجز خلال تلك الفترة: نقل بعض رسوم الفنان "انغر" وتشكيل مجموعة من المنحوتات الفخمة (أجساد عارية).
كما تأثر بيكاسو بنظريات فرويد في علم النفس، حيث رسم خلال تسع سنوات. وسط نتاج جد متنوع، مجموعة من اللوحات التي تثبت صورا قاسية وفظة من الكوابيس والوساوس المجونية (لوحة نساء عاريات) المرسومة عام 1927 والموجودة في متحف الفن الحديث بالولايات المتحدة، ولوحة (المرأة حاملة البالون). ولوحة (مستحمات/ مجموعة ف.و. كاتر نيويورك) المرسومتين عام a 1930 [3].
وبدءا من سنة 1931، أنجز بيكاسو بمحترف قصر بواجولو (في النورماندي) مجموعة من المنحوتات على شكل إنشاءات مصنوعة من المعادن المقطعة والنفايات والأدوات المهملة.. والتي تعرف اليوم باسم فن التجميع.. (راجع: الواقعية الجديدة خصوصا مع بيير ريستاني وارمان وكلاين..). ومن بين هذه الإبداعات (المرأة في الحديقة) و(المينوتور)[4] رمز الدعارة والإجرام الجنسي.
وفي عام 1935، قام بيكاسو بطباعة لوحة (المينوتور السائر) الموجودة في (متحف الفن الحديث بنيويورك)، والتي تعتبر أهم أعمال الحفر، وتلخص أفضل إنجازات بيكاسو الإبداعية حتى يومنا هذا.
الغـورنيكـا ودورامار
"حفر بيكاسو، الذي أيقظت الحرب الإسبانية (العرقية والأهلية) لديه المشاكل السياسية في عام 1937، لوحة (حلم فرانكو وكذبه)، ورسم للجناح الجمهوري في المعرض العالمي لوحة (غورنيكا) / Guernica[5] اللوحة الواسعة لتي تذكر بقصف قرية صغيرة في مقاطعة الباسك من قبل الطيران الألماني، وبما أنها اللوحة التاريخية الوحيدة المرسومة في القرن العشرين، فهي تجمع في صورة ملحمة جنائزية واحدة بعضها من موضوعات الفترات السابقة (المينوتور، سباق الثيران، التمثال القديم المحطم..) وتطبع بداية المرحلة الأكثر عنفا وظلاما ومأساوية في نتاج الرسام، ولقد أدخلت لوحة (المرأة الباكية) - مجموعة بنروز في لندن - والتي هي صدى لغورنيكا، في عمله شخصية سيكون لها أهمية خاصة في حياة وتطور فنه (دورامارر)، وهي مصورة فوتوغرافية شابة، ستغدو خلال سنوات عشر رفيقة حياته، فقد قصد بيكاسو عبر العديد من الصور التي خلفها عنها ليس فقط تقلبات علاقة كانت عاصفة دون ريب، ولكنه عبر أيضا، ولو بشكل مأساوي مضحك عن قلق العصر وألمه : يشهد على ذلك صورة (امرأة) المرسومة عام 1942 أو (امرأة على مقعد) الموجودة بمتحف كونستان في مدينة بال.
ولقد عبرت جميع اللوحات المرسومة خلال عام 1940، بقدر كثير أو قليل، عن جو الحرب مثل : (صيد السمك في الليل) في أنتيب (متحف الفن الحديث بنيويورك) وهي لوحة ليلية نفذها ليلة بدء العدوان النازي، ولوحة (المرأة التي تتزين. مجموعة الفنان) والتي سجن جسمها الضخم في نوع من غرفة منفردة، أو اللوحات المعبرة عن طبيعة صامتة أو وجوه تعكس المصائب اليومية الصغيرة، أو وساوس الغذاء في سنوات الاحتلال كلوحات: (مخطط البندورة)، و(لحم البقر الكاتلاني) و(المرأة حاملة الخرشوف)، وهناك تحفتان تلخصان هذه الفترة وهما: الطبيعة الصامتة وجمجمة ثور (متحف كونست في دوسلدورف)، وهو العمل الأكثر إسبانية ومأساوية بين أعمال بيكاسو، وقد أنجزت بعد موت صديقه النحات (خوليو غونزاليس) و (الرجل الخروف) وهي منحوتة ضخمة تنتصب ليوم في ساحة دوفالوريس رمزا للألم والشفقة والتضامن من خلال التجربة" (الحياة التشكيلية).
وبعد أن انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1944، ورسم بيكاسو بعض الأعمال الفنية التي تذكر بالتوتر السياسي الذي عرفته فترة ما بعد الحرب: (لوحة ركام جثت)، لوحة (مجازر كوريا)، لوحة (حمامة السلم / اللوحة الشهيرة بملصقها الذي انتشر في العالم بأسره).
تذبذبـات سلـوكيـة
لقد أجمع العديد من المحللين والدارسين لشخصية بيكاسو وأبرزهم الإيطالي بابيني، كون صاحب لوحة "آنسات أفنيون" لم يكن يستحق الشهرة التي اكتسبها بفضل شعوذته التي ضلل بها العالم حين تم تتويجه كأعظم فنان في هذا القرن معللين ذلك بعدم الاستقرار الإبداعي عنده (بيكاسو) فتارة ينهج أسلوبا كلاسيكيا ونيوكلاسيكيا، وتارة أخرى يعتبر نفسه سرياليا رمزيا.. بل ذهب في فترات متعددة إلى حد مهاجمة التكعيبيين (بعد مرحلة ذهبية مع جورج براك).. وبسبب عدوانيته وقسوة سلوكه مع أصدقائه خصوصا النساء منهم، فقد تراكمت عليه انتقادات كثيرة، وأمطره العديد من النقاد ألقابا وأقوالا ساخرة منها بيكاسو الوحش.. بيكاسو الفنان الجشع والمغرور.. كفى سادية يا بيكاسو..
كان بيكاسو، بحسب ما ترويه عنه أبرز عشيقاته فرانسواز جيلو، عنيفا مع صديقاته ومتنكرا لفضلهن عليه.. فدورامار (المصورة الفوتوغرافية والرسامة السوريالية الشابة ) التي غدت خلال سنوات عشر رفيقة حياته مرت بفترات صعبة من الانهيار الذي أدى بها إلى الجنون بسبب هجر بيكاسو لها بعد أن هاجمها متهما إياها بسوء فهمها للسوريالية رغم مناصرة بول إيلوار / Paul ELUARD لها.. بينما عانث ماري تيريز (صاحبة الهدايا المتكررة) التي لم تكن تعرف للتشاؤم معنى من اضطرابات نفسية حادة نظرا لتصرفات وتجاوزات بيكاسو اللاأخلاقية..
أما أولكا زوجته الأولى فقد أنهت حياتها مجنونة تجوب شوارع ومقاهي فرنسا، تبحث عنه في كل مكان.. وحتى زوجته الثانية جاكلين لم تكن أفضل من الأولى أولكا حيث أقدمت (انتقاما) على الانتحار بسبب الخيانة الزوجية المتكررة التي ميزت سلوك بيكاسو.
وقد طال الانحراف السلوكي حتى بعض أفراد عائلة بيكاسو، فابنه باولو الذي كان يعمل سائقا له ولأسرته أصبح مدمنا على تناول الكحول والمخدرات وحفيده بابليتو عرف نهاية مرعبة إذ تناول وعاء (جافيل) يوم جنازة بيكاسو..[6].
ويذكر أن بيكاسو، المعتقل عام 1911 بشبهة سرقة لوحة الموناليزا "كان يستعمل النساء المتعاونات في فنه وإن كانت معاملته من تصيب بالصدفة فقد كان يفعل ذلك من أجل أن يلاحظ عن كثب على وجوههن مفعول الغيرة والهستيريا وألم الهجر، ثم أنهن قد شكلن أيضا مواضيع اللوحات الدافئة التي تجسد الاكتمال الجنسي والحب الأمومي"[7].
ورغم هذه التذبذبات السلوكية والتقلبات في المواقف والمعاملات التي ميزت جل أطوار حياته، فقد عرف بيكاسو استقرارا عاطفيا (ولكنه مرحلي) امتد بين عامي 946 و1953 (أي الفترة الزوجية التي قضاها مع فرانسواز جيلو) انعكس على سكونية إبداعه حيث رسم لوحة (المرأة والزهرة)، ولوحة (أمومة البرتقال ) غير أن هذا الاستقرار ما لبث أن تبدل بسبب حدوث صراع غير متوقع بني بيكاسو وفرانسواز جيلو انتهى بفراق انزوى بيكاسو بسببه في دائرة العزلة وأصبح فنه يثير الغرابة والألغاز (لوحة نساء الجزائر - 1955) ولوحة (المرافقات - 1957)، ولوحة (الغذاء على العشب 1961)[8]. إلا أن بيكاسو "سيحيا" من جديد - كما علق على ذلك أحد النقاد الفنيين - موقعا بذلك حدا لمسلسل العزلة والانكماش حيث أنه أقام عام 1968 معرضا هائلا أظهر من خلاله على أنه لم يفقد شيئا من حيويته وخصوبة ابتكاره وحماسته في استنطاق أسرار العمل الفني... وبعد ذلك بخمسة أعوام (أي عام 1937) فارق بيكاسو الحياة عن سن يناهز 92 عاما ليكون بذلك رحيل أحد أبرز رموز الفن الحديث[9].
ولد "بابلو رويز بلاسكو" الملقب باسم بابلو بيكاسو عام 1881 بمالقة (الأندلس) وتلقى تكوينه الفني
بيرشلونة، حيث كانت تختلط التأثيرات الفوضوية بتأثير الفن الحديث، وبالمدرسة ما قبل الرمزية وبالتعبيرية الاسكندنافية التي كان يقودها الفنان النرويجي "إدوارد مانش، وبفن الرسم الفرنسي الذي تأثر به بيكاسو (خصوصا بباريس) لمدة ثلاث سنوات أي بين عامي 1900 و 1903.
الدارسون والمحللون لمسيرة بيكاسو الفنية يجمعون على كونه، قبل ولوجه عالم التكعيبية، مر من مراحل متعددة وغنية من حيث المواضيع والتقنيات التعبيرية وهكذا نجد أن أعماله الأولى، التي تمثل مشاهد اجتماعية وواقعية (الراقصات، العاهرات، مدمني الخمر..)، أخذها بيكاسو من صميم دروس ما قبل التعبيرية (نموذج لوحة نانا الموجودة في متحف بيكاسو ببرشلونة) قبل أن يتأثر بانطباعية بول غوغان وتولوز لو تريك (لوحة المهرج الموجودة بمتحف الميتروبوليتان بنيويورك كنموذج).
بعد ذلك، اتخذ بيكاسو من "رمزية الاستلهام" مصدرا مرجعيا ميز مرحلته الزرقاء التي أنجز خلالها مجموعة من اللوحات شبه أحادية اللون (monochrome). منها لوحة (الحياة) ولوحة (السماوية).
وفي مرحلته الوردية، استطاع بيكاسو (انطلاقا من 1906) أن يرسم العديد من اللوحات العاطفية (المهرج، الفارسات، المرأة حاملة الوردة، البهلوان..) بعد ذلك، قرر بيكاسو الاستقرار الرسمي بباريس، حيث شغل محترفا في ( الباتولافو) في مونمارتر.. واستطاع بفضل اجتماعية التي يتميز بها أن يربط علاقات سريعة مع الشاعر (أبو لينير) والرسام (هنري ماتيس).
أما عن علاقة بيكاسو مع التعبير التكعيبي فإنها تعود بالأساس إلى تأثره بعاملين اثنين: أفكار الرسام بول سيزان (الذي اهتم كثيرا بالحجم الطبيعي) وخصوصيات النحت الزنجي (sculpture nègne) [1].
وتعتبر لوحة (نساء عاريات) الموجودة في متحف الفن الحديث بنيويورك) وبدرجة أقل لوحة (آنسات أفنيون / Les demoiselles d’Avignon. نفس المتحف)، من أشهر الأعمال التي أظهرت النزعة البدائية التي ستفرض وجودها في جل إبداعاات بيكاسو، والتي رسمت له طريقا عريضا لولوج التكعيبية .. ومن هنا انقطع بيكاسو كليا عن التصوير الأكاديمي والكلاسيكي.. ومعلنا في الآن نفسه، عن ميلاد نمط تعبيري جديد اسمه: التكعيبية / Cubisme [2] التي لم تدم، في تاريخ الفن المعاصر سوى ستة أعوام (وهي أقصر مرحلة من مراحل التصوير الحديث) قضاها بيكاسو بمغامرة فريدة خصوصا مع صديقه جورج براك سبيلا في إعطاء وتقديم الأشياء في صورة مبسطة وإعادتها إلى مجسمات هندسية بغية منحها وجودها الفيزيائي الملموس.. بعيدا عن أساليب وتقنيات المنظور التقليدي..
وفي عام 1917، أرغم بيكاسو على السفر إلى "إيطاليا بسبب الحرب التي أبعدته عن صديقه براك، وعن رسامي (مونمارتر).. وبروما التقى مع الشاعر والكاتب المسرحي جان كوكتو / J.Cocteau الذي لعب دورا كبيرا في تأثر بيكاسو بعالم المسرح والرقص (الباليه).
بعد ذلك انطلق بيكاسو في دراسة النحت القديم وتحليل كلاسيكية النهضة (الحنين إلى التراث التقليدي). وقد أنجز خلال تلك الفترة: نقل بعض رسوم الفنان "انغر" وتشكيل مجموعة من المنحوتات الفخمة (أجساد عارية).
كما تأثر بيكاسو بنظريات فرويد في علم النفس، حيث رسم خلال تسع سنوات. وسط نتاج جد متنوع، مجموعة من اللوحات التي تثبت صورا قاسية وفظة من الكوابيس والوساوس المجونية (لوحة نساء عاريات) المرسومة عام 1927 والموجودة في متحف الفن الحديث بالولايات المتحدة، ولوحة (المرأة حاملة البالون). ولوحة (مستحمات/ مجموعة ف.و. كاتر نيويورك) المرسومتين عام a 1930 [3].
وبدءا من سنة 1931، أنجز بيكاسو بمحترف قصر بواجولو (في النورماندي) مجموعة من المنحوتات على شكل إنشاءات مصنوعة من المعادن المقطعة والنفايات والأدوات المهملة.. والتي تعرف اليوم باسم فن التجميع.. (راجع: الواقعية الجديدة خصوصا مع بيير ريستاني وارمان وكلاين..). ومن بين هذه الإبداعات (المرأة في الحديقة) و(المينوتور)[4] رمز الدعارة والإجرام الجنسي.
وفي عام 1935، قام بيكاسو بطباعة لوحة (المينوتور السائر) الموجودة في (متحف الفن الحديث بنيويورك)، والتي تعتبر أهم أعمال الحفر، وتلخص أفضل إنجازات بيكاسو الإبداعية حتى يومنا هذا.
الغـورنيكـا ودورامار
"حفر بيكاسو، الذي أيقظت الحرب الإسبانية (العرقية والأهلية) لديه المشاكل السياسية في عام 1937، لوحة (حلم فرانكو وكذبه)، ورسم للجناح الجمهوري في المعرض العالمي لوحة (غورنيكا) / Guernica[5] اللوحة الواسعة لتي تذكر بقصف قرية صغيرة في مقاطعة الباسك من قبل الطيران الألماني، وبما أنها اللوحة التاريخية الوحيدة المرسومة في القرن العشرين، فهي تجمع في صورة ملحمة جنائزية واحدة بعضها من موضوعات الفترات السابقة (المينوتور، سباق الثيران، التمثال القديم المحطم..) وتطبع بداية المرحلة الأكثر عنفا وظلاما ومأساوية في نتاج الرسام، ولقد أدخلت لوحة (المرأة الباكية) - مجموعة بنروز في لندن - والتي هي صدى لغورنيكا، في عمله شخصية سيكون لها أهمية خاصة في حياة وتطور فنه (دورامارر)، وهي مصورة فوتوغرافية شابة، ستغدو خلال سنوات عشر رفيقة حياته، فقد قصد بيكاسو عبر العديد من الصور التي خلفها عنها ليس فقط تقلبات علاقة كانت عاصفة دون ريب، ولكنه عبر أيضا، ولو بشكل مأساوي مضحك عن قلق العصر وألمه : يشهد على ذلك صورة (امرأة) المرسومة عام 1942 أو (امرأة على مقعد) الموجودة بمتحف كونستان في مدينة بال.
ولقد عبرت جميع اللوحات المرسومة خلال عام 1940، بقدر كثير أو قليل، عن جو الحرب مثل : (صيد السمك في الليل) في أنتيب (متحف الفن الحديث بنيويورك) وهي لوحة ليلية نفذها ليلة بدء العدوان النازي، ولوحة (المرأة التي تتزين. مجموعة الفنان) والتي سجن جسمها الضخم في نوع من غرفة منفردة، أو اللوحات المعبرة عن طبيعة صامتة أو وجوه تعكس المصائب اليومية الصغيرة، أو وساوس الغذاء في سنوات الاحتلال كلوحات: (مخطط البندورة)، و(لحم البقر الكاتلاني) و(المرأة حاملة الخرشوف)، وهناك تحفتان تلخصان هذه الفترة وهما: الطبيعة الصامتة وجمجمة ثور (متحف كونست في دوسلدورف)، وهو العمل الأكثر إسبانية ومأساوية بين أعمال بيكاسو، وقد أنجزت بعد موت صديقه النحات (خوليو غونزاليس) و (الرجل الخروف) وهي منحوتة ضخمة تنتصب ليوم في ساحة دوفالوريس رمزا للألم والشفقة والتضامن من خلال التجربة" (الحياة التشكيلية).
وبعد أن انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1944، ورسم بيكاسو بعض الأعمال الفنية التي تذكر بالتوتر السياسي الذي عرفته فترة ما بعد الحرب: (لوحة ركام جثت)، لوحة (مجازر كوريا)، لوحة (حمامة السلم / اللوحة الشهيرة بملصقها الذي انتشر في العالم بأسره).
تذبذبـات سلـوكيـة
لقد أجمع العديد من المحللين والدارسين لشخصية بيكاسو وأبرزهم الإيطالي بابيني، كون صاحب لوحة "آنسات أفنيون" لم يكن يستحق الشهرة التي اكتسبها بفضل شعوذته التي ضلل بها العالم حين تم تتويجه كأعظم فنان في هذا القرن معللين ذلك بعدم الاستقرار الإبداعي عنده (بيكاسو) فتارة ينهج أسلوبا كلاسيكيا ونيوكلاسيكيا، وتارة أخرى يعتبر نفسه سرياليا رمزيا.. بل ذهب في فترات متعددة إلى حد مهاجمة التكعيبيين (بعد مرحلة ذهبية مع جورج براك).. وبسبب عدوانيته وقسوة سلوكه مع أصدقائه خصوصا النساء منهم، فقد تراكمت عليه انتقادات كثيرة، وأمطره العديد من النقاد ألقابا وأقوالا ساخرة منها بيكاسو الوحش.. بيكاسو الفنان الجشع والمغرور.. كفى سادية يا بيكاسو..
كان بيكاسو، بحسب ما ترويه عنه أبرز عشيقاته فرانسواز جيلو، عنيفا مع صديقاته ومتنكرا لفضلهن عليه.. فدورامار (المصورة الفوتوغرافية والرسامة السوريالية الشابة ) التي غدت خلال سنوات عشر رفيقة حياته مرت بفترات صعبة من الانهيار الذي أدى بها إلى الجنون بسبب هجر بيكاسو لها بعد أن هاجمها متهما إياها بسوء فهمها للسوريالية رغم مناصرة بول إيلوار / Paul ELUARD لها.. بينما عانث ماري تيريز (صاحبة الهدايا المتكررة) التي لم تكن تعرف للتشاؤم معنى من اضطرابات نفسية حادة نظرا لتصرفات وتجاوزات بيكاسو اللاأخلاقية..
أما أولكا زوجته الأولى فقد أنهت حياتها مجنونة تجوب شوارع ومقاهي فرنسا، تبحث عنه في كل مكان.. وحتى زوجته الثانية جاكلين لم تكن أفضل من الأولى أولكا حيث أقدمت (انتقاما) على الانتحار بسبب الخيانة الزوجية المتكررة التي ميزت سلوك بيكاسو.
وقد طال الانحراف السلوكي حتى بعض أفراد عائلة بيكاسو، فابنه باولو الذي كان يعمل سائقا له ولأسرته أصبح مدمنا على تناول الكحول والمخدرات وحفيده بابليتو عرف نهاية مرعبة إذ تناول وعاء (جافيل) يوم جنازة بيكاسو..[6].
ويذكر أن بيكاسو، المعتقل عام 1911 بشبهة سرقة لوحة الموناليزا "كان يستعمل النساء المتعاونات في فنه وإن كانت معاملته من تصيب بالصدفة فقد كان يفعل ذلك من أجل أن يلاحظ عن كثب على وجوههن مفعول الغيرة والهستيريا وألم الهجر، ثم أنهن قد شكلن أيضا مواضيع اللوحات الدافئة التي تجسد الاكتمال الجنسي والحب الأمومي"[7].
ورغم هذه التذبذبات السلوكية والتقلبات في المواقف والمعاملات التي ميزت جل أطوار حياته، فقد عرف بيكاسو استقرارا عاطفيا (ولكنه مرحلي) امتد بين عامي 946 و1953 (أي الفترة الزوجية التي قضاها مع فرانسواز جيلو) انعكس على سكونية إبداعه حيث رسم لوحة (المرأة والزهرة)، ولوحة (أمومة البرتقال ) غير أن هذا الاستقرار ما لبث أن تبدل بسبب حدوث صراع غير متوقع بني بيكاسو وفرانسواز جيلو انتهى بفراق انزوى بيكاسو بسببه في دائرة العزلة وأصبح فنه يثير الغرابة والألغاز (لوحة نساء الجزائر - 1955) ولوحة (المرافقات - 1957)، ولوحة (الغذاء على العشب 1961)[8]. إلا أن بيكاسو "سيحيا" من جديد - كما علق على ذلك أحد النقاد الفنيين - موقعا بذلك حدا لمسلسل العزلة والانكماش حيث أنه أقام عام 1968 معرضا هائلا أظهر من خلاله على أنه لم يفقد شيئا من حيويته وخصوبة ابتكاره وحماسته في استنطاق أسرار العمل الفني... وبعد ذلك بخمسة أعوام (أي عام 1937) فارق بيكاسو الحياة عن سن يناهز 92 عاما ليكون بذلك رحيل أحد أبرز رموز الفن الحديث[9].